فصل: تفسير الآيات (181- 183):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (177- 178):

{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}
قال سبحانه وتعالى: {ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا} يعني بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا {وأنفسهم كانوا يظلمون} يعني بتكذيبهم بآياتنا.
قوله عز وجل: {من يهد الله فهو المهتدي} يعني من يرشده الله إلى دينه فهو المهتدي، وقيل: معناه من يتول الله هدايته وإرشاده فهو المهتدي {ومن يضلل} يعني ومن يتول الضلالة {فأولئك هم الخاسرون} يعني في الآخرة وفي الآية دليل على أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي المضل.

.تفسير الآيات (179- 180):

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}
قوله سبحانه وتعالى: {ولقد ذرأنا} يعني خلقنا {لجهنم كثيراً من الجن والإنس} أخبر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ومن خلقه الله للنار فلا حيلة له في الخلاص منها. واستدل البغوي على صحة هذا التأويل بما رواه عن عائشة قال: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم أخرجه مسلم. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه لي مكلفاً وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا.
وأجاب العلماء عنه بأنه لعله صلى الله عليه وسلم نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص لفظة: «إني لأراه مؤمناً فقال: أو مسلماً» الحديث، ويحتمل أن صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم ذلك قال به، وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون: هم في النار تبعاً لآبائهم وتوقف طائفة فيهم والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها خبر إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس فقالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: «وأولاد المشركين» رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله سبحانه وتعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} ولا يتوجه على المولود التكليف ولا يلزمه قبول قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والله أعلم.
وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها وأن الله سبحانه وتعالى بيّن بصريح اللفظ أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ولا تزيد على بيان الله عز وجل لأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار فلما عمل بما يوجب دخول النار به علم أنه له من يضطره إلى ذلك العمل الواجب إلى دخول النار وهو الله عز وجل، وقيل: اللام في جهنم للعاقبة أي عاقبتهم جهنم، ثم وصفهم فقال تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} يعني: لا يفهمون بها ولا يعقلون بها وأصل الفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء ثم صار علماً على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم يقال: فقه الرجل يفقه فهو فقيه إذا فهم ومعنى الآية لهم قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله ولا يتدبرونها ولا يعلمون بها الخير والهدى لإعراضهم عن الحق وتركهم قبوله {ولهم أعين لا يبصرون بها} يعني لا يبصرون بها طريق الحق والهدى ولا ينظرون بها في آيات الله وأدلة توحيده {ولهم آذان لا يسمعون بها} يعني لا يسمعون آيات القرآن ومواعظه فيعتبرون بها، قال أهل المعاني: إن الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات وهذا لا يشك فيه.
ولما وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدراكة علم بذلك أن المراد بذلك يرجع إلى مصالح الدين وما فيه نفعهم في الآخرة وحاصل هذا الكلام أنهم مع وجود هذه الحواس لا ينتفعون بها فيما ينفعهم في أمور الدين والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ومنه قول الشاعر:
وعوراء الكلام صمت عنها ** وإني إن أشاء بها سميع

فإنه أثبت له صمماً مع وجود السمع. قال مجاهد: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى ولهم آذان لا يسمعون بها الحق.
ثم ضرب لهم مثلاً فقال سبحانه وتعالى: {أولئك كالأنعام} يعني أن الذين ذرأهم لجهنم وهم الذين حقَّت عليهم الكلمة الأزلية كالأنعام وهي البهائم التي لا تفهم ولا تعقل وذلك لأن الإنسان وسائر الحيوانات مشتركون في هذه الحواس الثلاثة التي هي القلب والبصر والسمع.
وإنما فضّل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدي إلى معرفة الحق من الباطل والخير والشر فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه فلا فرق بينه وبين الأنعام التي لا تدرك شيئاً ثم قال تعالى: {بل هم أضل} يعني: بل إن الكفار أضلّ من الأنعام لأن الأنعام تعرق ما يضرها وما ينفعها والكافر لا يعرف ذلك فصار أضل من الأنعام ولأن الأنعام لم تعطَ القوة الفعلية والإنسان قد أعطيها فإذا لم يستعملها فيما ينفعه صار أحسن حالاً من الأنعام.
وقيل: إن الأنعام مطيعه لله عز وجل والكافر غير مطيع لله عز وجل، فصارت الأنعام أفضل منه ثم قال تعالى: {أولئك هم الغافلون} يعني عن ضرب هذه الأمثال لهم.
قوله سبحانه وتعالى: {ولله الأسماء الحسنى} قال مقاتل: إن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال بعض مشركي مكة قال ابن الجوزي: هو أبو جهل إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يعبد ون رباً واحد فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله هذه الآية: {ولله الأسماء الحسنى} والحسنى تأنيث الأحسن، ومعنى الآية أن أسماء الله سبحانه وتعالى المقدسة كلها حسنى وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن والمعنى أن الأسماء الحسنى ليس إلا لله لأن هذا اللفظ يفيد الحصر.
وقيل إن الأسماء ألفاظ دالة على معان فهي إنما تحسن بمعانيها ولا معنى للحسن في حق الله تبارك وتعالى إلا ذكره بصفات الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين:
أحدهما: عدم افتقاره إلى غيره.
الثاني: افتقار غيره إليه وإنه هو المسمى بالأسماء الحسنى.
(ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» وفي رواية: «من أحصاها» وفي رواية أخرى: «لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» وفي رواية: «من أحصاها» وفي رواية أخرى: «لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» قال البخاري: احصاها حفظها. وفي رواية عن الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيّوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المعدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» قال الترمذي: حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث قال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء التي في هذا الحديث. قال ابن الأثير: وفي رواية ذكرها رزين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون فقال: «إن لله تبارك وتعالى تسع وتسعين اسماً» الحديث.
قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى: اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما المقصود من الحديث أن هذه التسعة والتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة فالمراد عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء ولهذا جاء في الحديث الآخر: «أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر الحافظ أبو بكر العربي المالكي عن بعضهم أن لله ألف اسم. قال ابن العربي: وهذا قليل. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحصاها دخل الجنة» تقدم فيه قول البخاري أن معناه حفظها وهو قول أكثر المحققين ويعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة. وقيل: المراد من الإحصاء العدد أي عدها في الدعاء بها. وقيل معناه من أطاقها وأحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها وعمل بمقتضاها دخل الجنة وقيل معنى أحصاها أحضر بباله عند ذكرها معناه وتفكر في مدلولها معتبراً متدبراً ذاكراً راغباً راهباً معظماً لها ولمسماها ومقدساً لذات الله سبحانه وتعالى وأن يخطر بباله عند ذكر كل اسم الوصف الدال عليه، وقوله والله وتر يحب الوتر الوتر الفرد ومعناه في وصف الله تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له ولا نظير فيه تفضيل الوتر في الأعمال لأن أكثر الطاعات وتر وفيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى الله لإضافة الأسماء إليه فيقال الرؤوف والكريم واللطيف من أسماء الله ولا يقال من أسماء الله الرؤوف والكريم واللطيف الله وقد قيل إن لفظة الله هو الاسم الأعظم. قال أبو القاسم القشيري: فيه دليل على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره وقد قال {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} وقال الإمام فخر الدين الرازي: دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لا تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء الجمع وهو يفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضاً قوله سبحانه وتعالى: {ولله الأسماء} يقتضي إضافة الأسماء إلى الله وإضافة الشيء إلى نفسه محال. وقال غيره: الاسم عبارة عن اللفظ الدال على الشيء المسمى به فهو غيره. وقال أهل اللغة: إنما جعل الاسم تنويهاً على المعنى لأن المعنى تحت الاسم والتسمية غير الاسم لأن التسمية عبارة عن وضع اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق ظاهر. قال العلماء: وكما يجب تنزيه الله عن جميع النقائص فكذلك يجب تنزيه أسمائه أيضاً وقوله سبحانه وتعالى: {فادعوه بها} يعني ادعوا الله بأسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله ففيه دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية ومما يدل على صحة هذا القول ويؤكده أنه يجوز أن يقال يا جواد ولا يجوز أن يقال يا سخي ويجوز أن يقال يا عالم ولا يجوز أن يقال يا عاقل ويجوز أن يقال يا حكيم ولا يجوز أن يقال يا طبيب وللدعاء شرائط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها ويستحضر في قلبه عظمة المدعوّ سبحانه وتعالى ويخلص النية في دعائه مع كثرة التعظيم والتبجيل والتقديس لله ويعزم المسألة مع رجاء الإجابة ويعترف الله سبحانه وتعالى بالربوبية وعلى نفسه بالعبودية فإذا فعل العبد ذلك عظم موضع الدعاء وكان له تأثير عظيم {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد والعدول عن الاستقامة.
وقال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق المدخل في ما ليس منه يقال ألحد في الدين إلحاداً إذا عدل عنه ومال إلى غيره. قال المحققون: الإلحاد يقع في أسماء الله تعالى على وجوه:
أحدها: إطلاق أسماء الله عز وجل على غيره وذلك أن المشركين سموا أصنامهم بالآلهة واشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فسموا اللات والعزى ومناة واشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد.
الوجه الثاني: وهو قول أهل المعاني أن الإلحاد في أسماء الله هو تسميته بما لم يسمّ به نفسه ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة لأن أسماء الله سبحانه وتعالى كلها توقيفية كما تقدم فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل ندعو الله بأسمائه التي وردت في الكتاب والسنة على وجه التعظيم.
الوجه الثالث: مراعاة حسن الأدب في الدعاء فلا يجوز أن يقال يا ضارّ يا مانع يا خالق القردة على انفراد بل يقال يا ضرا يا نافع يا خالق الخلق.
الوجه الرابع: أن لا يسمي الله العبد باسم لا يعرف معناه فإنه ربما سماه باسم لا يليق إطلاقه على جلال الله سبحانه وتعالى ولا يجوز أن يسمى به لما فيه من الغرابة.
وقوله سبحانه وتعالى: {سيجزون ما كانوا يعملون} يعني في الآخرة ففيه وعيد وتهديد لمن ألحد في أسماء الله عز وجل.

.تفسير الآيات (181- 183):

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}
قوله عز وجل: {ومما خلقنا أمة} يعني جماعة وعصابة {يهدون بالحق وبه يعدلون} قال ابن عباس: يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان. قال قتادة: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون» {ق} عن معاوية قال وهو يخطب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه {والذين كذبوا بآياتنا} يريد به جميع المكذبين بآيات الله وهم الكفار. وقيل: المراد بهم أهل مكة والأول أولى لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} قال الأزهري: سنأخذهم قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله سبحانه وتعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون وقيل معناه سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم لأنهم كانوا إذا أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا فيزدادون تمادياً في الغيّ والضلال ويندرجون في الذنوب والمعاصي فيأخذهم الله أخذه واحدة أغفل ما يكونون عليه. وقال الضحاك: معناه كلما جددوا معصية جددنا نعمة. وقال الكلبي: نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها، وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر.
روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى قال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. قال أهل المعاني: الاستدراج أن يندرج الشيء إلى الشيء في خفية قليلاً ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي ومنه درج الكتاب إذا أطواه شيئاً بعد شيء {وأملي لهم} يعني وأمهلهم وأطيل مدة أعمارهم.
والإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة والمعنى إني أطيل مدة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة {إن كيدي متين} يعني إن أخذي شديد والمتين من كل شيء هو القوي الشديد. وقال ابن عباس: معناه إن مكري شديد. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم ثم قتلهم في ليلة واحدة وفي هذه الآية دليل على مسألة القضاء والقدر وأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.